أسطورة البدروم.. قصة خالد الشهاري الذي حوّل الخضار إلى هدايا
كتب: هلال جزيلان
00967775036841
في شارع "سعوانَ" من عزلة البدروم، وفي بدرومٍ متواضعٍ كخفيِّ
أقدارِ الرجالِ الأتقياء، يَقْعَدُ عالمٌ خفيٌّ تُحاكُ أسطورتُه بين سلالِ اليقطينِ
وعبقِ النعناع هنا، حيثُ تتنفَّسُ الأرضُ براءةً، يعيشُ "خالد الشهاري"..
ليس مجرد بائعٍ للخضار، بل حارسٌ للعهدِ الأول، وخازنٌ لأسرارِ الأرضِ والسماء.
في ظلمةِ الفجرِ الباكي، حينما تَلُفُّ العزلة نفسَها بلحافِ صمتٍ ثقيل،
يَنْهَضُ خالدٌ كأنه نبضٌ من أنفاسِ الخالقِ الأولى تَمْشِي قدماه على إيقاعِ صلواتٍ
قديمة، يَحْمِلُ بين جفنيه خرائطَ الطرقاتِ التي تَسْلُكُها الخضارُ من حنانِ التربةِ
إلى أيدي الزبائن إنه لا يَجْنِي الخضارَ، بل يَسْتَقبِلُ رسلاً من عالمٍ أنقى، كلُّ
ثمرةٍ رسالةُ محبةٍ من الأرضِ إلى الإنسان.
هيكل من نور
وأما محله، فكأنه هيكلٌ من نور، تَرَى فيه الطماطمَ حمراءَ كقلوبِ العاشقين،
والخيارَ أخضرَ كأحلامِ الأطفال، والباذنجانَ بنفسجياً كأساطيرِ الملوكِ الغابرين.
والريحان! يا له من عطرٍ يَرْوِي حكاياتِ الجناتِ المفقودة إنه ليس مجردَ بدروم، بل
فسحةُ أملٍ في زمنِ القحط، وجنةٌ مصغرةٌ تَثْمِرُ أخلاقاً قبل أن تَثْمِرَ فاكهة.
يَتَرَاقَصُ خالد بين الخضراتِ كشاعرٍ بين كلماته، يَلْمَسُ كلَّ ثمرةٍ
بكفِّ والدٍ حنون يَعْرِفُ أن البرتقالةَ تَحْتَاجُ إلى من يَمْسَحَ عنها غبارَ الطريق،
وأن العنبةَ تَتَأَلَّمُ من الفراق يداهُ لا تَبِيعان، بل تَمْنَحان عيناه لا تَقِيسان
الأرباح، بل تَرْنُوان إلى ابتسامةِ طفلٍ أو راحةِ قلبِ أمٍّ متعبة.
رائحة الأمانة
والناس! يا له من موكبٍ من القلوبِ المتعطشةِ للخير! يَأْتُونَ إليه ليس
كزبائن، بل كحجاجٍ إلى معبدِ الإنسانية يَخْرُجُونَ من عنده بحكاياتٍ تُرْوَى لأحفادِ
الأحفاد، عن رجلٍ أَضَاءَ لهم شمسَ المروءة يَشْتَرُونَ منه الطماطمَ فيَأْخُذُونَ
معها درساً في الكرم، ويَحْمِلُونَ البطاطسَ وتَخْتَلِطُ في أكياسهم رائحةُ الأمانة.
تَقُولُ الأمهات: "إن خالداً يُبَارِكُ اللهُ في رزقه، كأن يدَ الرسولِ
صلى الله عليه وسلم تَمْسَحُ على خضاره" ويَقُولُ الشيوخ: "إنه آخرُ الفرسانِ
في زمنِ الغدر" ويَهْمِسُ الأطفال: "إن عمّ خالدٍ يَعْرِفُ سرَّ لغزِ الجزر
الذهبي!".
في عينيه تَتَلألأ نجومُ اليمنِ القديم، وفي صوته حنينُ المطرِ الأول
عندما يُغْلِقُ محلهُ مساءً، تَبْقَى رائحةُ الأخلاقِ الطيبةِ عالقةً كبخورٍ مقدس إنه
خالدٌ الشهاري.. رجلٌ مختلف، تُرْسِلُهُ الأقدارُ إلى زمننا لِيُعَلِّمَنا أن الأبطالَ
لا يَرْتَدُونَ الأقنعة، بل يَلُفُّون أنفسهم برائحةِ الأرضِ الطيبة، وأن الأساطيرَ
لا تُكْتَبُ في الكتب، بل تُحكى بين سلالِ الفواكه وهمساتِ الناضجِ منها.
ملحمة الإنسان
هذه ليست قصةَ بائعٍ عادي، بل هي ملحمةُ الإنسانِ الذي يَصِيرُ خضاراً
وفاكهة، وتَصِيرُ خضارُه وفاكهتُه إنساناً في بدروم "سعوان الأوسط".. حيث
تَثْمِرُ الأخلاقُ قبل الخضار، ويُباعُ الأملُ بسعرِ التكلفة.
يَظَلُّ يا خالدٌ نبعاً للخير، وشاهداً على أن العظمةَ ليست في علوِّ
المباني، بل في عمقِ القلوب، وليس في سعةِ المكان، بل في رحابةِ النفس.
ليست هناك تعليقات