ضع اعلان هنا

اخر الأخبار

وداعًا أيها السنديانة: رثاء شيخ الإصلاح والعرفان، أحمد راجح مصلح



كتب: هلال جزيلان

00967775036841

كان الجبل نفسه يئنّ من فرط الوداع. ذلك الجبل الشامخ في الحيمة الداخلية من صنعاء، الذي شهد خطاه الثابتة طوال خمسة وأربعين عامًا، ها هو اليوم يشهد سكوته الأبدي، ويحمل على صخوره الصماء نواحَ قلوبٍ لم تستطع النطق بحجم الفقدان.

لم يكن تشييع جثمان، بل كان تشييع عصرٍ بأكمله. موكب بشريٌّ هائل، لم تَرَهُ صنعاء من قبل، تدفق كسيلٍ منكرٍ من القلوب المكلومة والأجساد المنحنية بحزنٍ صامت. لم يأتوا جميعًا من قرى الحيمة فحسب، بل جاءوا من كل فجّ عميق، من وديان صنعاء وشعابها ومن محافظات أخرى، ليودعوا رجلًا لم يكن شيخًا للضمان القبلي فحسب، بل كان ضمانًا للقلوب، وسندًا للضعفاء، وجسرًا للوصول إلى الحق.

كانوا هناك: الرجال الشداد الذين طالما أصلح بينهم، فجاءوا اليوم وقد ذابت نخوتهم في مآقيهم، والنساء في الشرفات والنوافذ يبكين رجلًا كان سترًا لأعراض الكثيرات، وحلًّا لمشاكلهن بخفّة روح وحكمة بالغة. الأطفال الصغار، الذين لم يعاصروه طويلاً، لكنهم كانوا يعرفون أن "الجدّ أحمد" هو مصدر كل قصة طيبة، وكل ابتسامة توزع على الفقراء.

هو


الشيخ أحمد راجح مصلح. اسمٌ كان يرتجف له المُخطئ رهبة، ويرتاح له المظلوم أمانًا. كان مرجعيةً لا تُجارى، لا في كتبٍ على رفّ، بل في قلبٍ متسعٍ كالبحر، وعقلٍ حكيمٍ كتاريخ اليمن نفسه. كان الأعراف القبلية عنده ليست قوانين جامدة، بل كانت روحًا يحافظ عليها، يطوّعها بحنكته ليصل بها إلى برّ السلام. كان صوته هو صوت الحكمة في النزاعات، وصمته كان درسًا في الوقار، وحركته كانت سعيًّا دؤوبًا لا يعرف الكلل نحو لمّ الشمل وإطفاء نيران الفتنة قبل أن تأكل الأخضر واليابس.

لم يكن يملك سلطةً إلا سلطة المودة، ولا قوةً إلا قوة الحق، ولا غنى إلا غنى النفس. كان فقيه العلاقات الإنسانية، ومفتي القلوب الواعدة. خمسة وأربعون عامًا، وهي عمرٌ أطول من عمر دولٍ كثيرة، قضاها يجري بين البيوت والمضافات، يحمل همًّا هنا، ويحلّ خلافًا هناك، يوفّق بين زوجين، ويجمع بين شقيقين، ويصلح بين عشيرتين كادت نار البغضاء أن تحرق بينهما كل جسر.

 

واليوم، ها هو يرقد في نعشه الأخير، صامتًا لأول مرة. لكن صمته كان أعظم خطبةٍ رآها الناس. لقد خطب فيهم بموته ما لم يستطع أي خطيبٍ قوله بحياته: أن الفضيلة خالدة، وأن عمل الخير هو الاستثمار الوحيد الذي لا يخسر، وأن احترام الناس هو التاج الذي لا يزول عن رأس صاحبه حتى بعد رحيله.

صُلّي عليه في جامع الشعب بالعاصمة صنعاء. كانت صلاة الغائب على جثمان حاضرٍ في كل ذرة من تراب هذه الأرض. البكاء كان ملكًا على الجميع، لكنه لم يكن بكاءً من أجل الموت، بل كان بكاءً من أجل فراق حكمةٍ كانت تمنحهم الأمان.

ثم كان السير نحو المقبرة. موكبٌ يمشي ببطء، كأن الأرض ترفض أن تستقبل هذا الجسد الطاهر. وعندما وُري الثرى، بدا وكأن الجبل نفسه قد انحنى قليلاً ليضمّه إلى صدره.

لكن قصة هذا الرجل لم تنتهِ عند حفرة القبر. لقد استمرت في "العزومة" التي لم تكن مجرد طعامٍ يُقدّم، بل كانت امتدادًا لسنّة كان يحافظ عليها: سنّة الكرم التي لا تعرف الحدود. موائد امتدت لتستوعب الجميع، بل وأكثر. لم يكن هناك غريب أو قريب، كلهم كانوا أبناءً لهذا الرجل الذي علمهم أن الإصلاح يبدأ بقطعة خبزٍ يتقاسمانها. كان الغداء والمقيل والمجابرة، كلها مشاهد من سيرته التي تكتبها الأيدي الممتلئة بالعطاء بعد أن امتلأت القلوب بالألم.

وفي صالة استقبال المعزين، وقف أبناؤه وأقاربه، وجوههم تحمل ملامحه وأخلاقه، يستقبلون المعزين. كان موقفًا دراميًا بكل معنى الكلمة. كان الحضور كبيرًا جدًا، تدفقوا ليشاهدوا بذرة الخير التي غرسها الشيخ أحمد قد أصبحت شجرةً باسقةً تظلّل الجميع. كانوا يعزونهم، ولكنهم في الحقيقة كانوا يروون قصصًا عن الراحل، كل قصةٍ فيها عبرة، وفيها معنى من معاني الخير الذي لم يمت.

ها هو قد رحل جسدًا، لكنه بقي أسطورةً تروى، ودرسًا يتعلم منه الدبلوماسيون كيف تُحلّ النزاعات، ويتعلم منه الدعاة كيف تلامس القلوب، ويتعلم منه الإنسان كيف يكون إنسانًا.

لقد كانت الحيمة الداخلية محظوظةً بهذا الشيخ الجليل، وكان هو محظوظًا بقومٍ عرفوا قدره فأكرموه حيًا وميتًا.

ستظل سيرته نبراسًا يضيء الطريق، وستبقى ذكراه دواءً لكل جرح، ووسيلةً لكل صلح. رحم الله الشيخ أحمد راجح مصلح، الذي كان خيرَ ممثلٍ لخلق النبيين، وحكمة الحكماء، وكرم الأجواد. لقد كان سنديانةً واقفة، وحتى عندما سقطت، فإن أخشابها ستُصنع منها مكاتب يكتب عليها التاريخ سير العظماء، وأقلامٌ تسطر بها أجمل قصص الإصلاح والمحبة.

"إنا لله وإنا إليه راجعون".

ليست هناك تعليقات