حارس الذاكرة البصرية.. الذي حمل الجبال على كتفه ليُصوِّر لليمن وجهُها
كتب: هلال محمد
في زمنٍ تطير فيه الصورُ بلا أجنحة، وتنتقلُ الكلمةُ في لمحة البصر، تَخِفُّ فيه الكاميراتُ حتى صارتْ تُحمل بين الجفن والجفن، تبرزُ من أعماق الذاكرة أسطورةٌ من زمنٍ آخر، زمنٍ كانت فيه الصورةُ جبلًا يُحمَل، والكلمةُ مُنْجَزًا يُنتَظَر، والإيمانُ عدسةً لا تُغَيِّرها السنون.
إنه ليس رجل، بل هو "سِفْرٌ مفتوح" سُطِّرتْ
صفحاتُه بخمسين حَجَةٍ من الضوء والظل، والصوت والصمت، والصلوات والتلاوات، إنه الحكيم،
النبيل، حارس البوابة العظيمة للذاكرة اليمنية، العم عبده طاهر الصعدي.
أسطورة الكاميرا التي تزنُ وطناً
في الأزمنة الغابرة، كان الأبطالُ يحملون سيوفاً وسهاماً،
لكن بطلَنا كان سلاحُه أغرب وأعجب، كان يحملُ جبلاً على كتفه، نعم، جبلاً من المعدن
والزجاج يُدعى "كاميرا"، تزنُ عشرين قنطاراً من العزم، لا يرفعها إلا من
في صدره جبالٌ من الإرادة.
كان يتنقل بها عبر السهول والوديان، فوق الربى وفي أعماق
المدن، كأنه "سامسون" الأسطوري، لكن قوته لم تكن في شعره، بل في نظره الثاقب
الذي يرى الجمالَ حيث لا يراه أحد، ويرصد اللحظةَ الخالدة قبل أن تولد، كان يضع عينه
على العدسة، فتنقلب الآلةُ الثقيلةُ ريشةَ رسامٍ خفيفة، ترسمُ بأشعةِ الضوءِ تاريخاً
لأمةٍ ناصعة.
لم يكن يصور مناسبات، بل كان يخلقُ أعياداً، كان ضوءُ
مصباحه السحري يمنحُ المشاهدَين أجنحةً ليحلقوا في فضاءاتِ الفرح الوطني، فيبطُلُ معه
زمنُ الانتظار، وتُحكى الحكايةُ في اللحظةِ عينها، كان ساحراً بصرياً، يأخذُ الضوءَ
من الشمسِ ويحبسه في شريطٍ سينمائي، ليُطلقه لاحقاً كعَقدٍ من اللآلئ في بيوت اليمنيين
جميعاً.
عدسة في المحراب.. عندما تتحد الروح بالصورة
لكن أعجبَ من كاميرته كانت عدسةُ قلبه، ففي الوقت الذي
كان فيه يصوِّرُ بطولةَ الوطنِ وعَرضَه، ها هو ذا، بعد أن يخلعَ عباءةَ الفنانِ المخرج،
يلبسُ لباسَ الطُهرِ والخشوع، فيتقدمُ أمامةً للناس في الصلاة.
يا للمشهدِ العجيب! الرجلُ الذي كان يقفُ خلفَ الكاميرا
ليرصدَ الجميع، ها هو ذا يقفُ أمامَ المصلين ليراه الجميعُ وهو يناجي ربه، نفسُ اليد
التي كانت تُحكمُ تحريكَ بكراتِ الأفلام، هي نفسُها المرفوعةُ بالدعاء، نفسُ الصوتِ
الذي كان يوجهُ الفنيينَ بكلمة "أكشن!" أو "قطع!"، هو نفسُ الصوتِ
الذي يرتفعُ بتكبيرةِ الإحرام وبـ"آمين" تهزُ أركانَ المسجد.
في هذه اللحظةِ كان يكتملُ سحرُه، فلم يكن هناك انقسامٌ
في شخصيته، بل اكتمالٌ نادر، هو رجلُ الإعلامِ والإيمان، الفنانُ والعابد، مخرجُ البرامجِ
ومُخرجُ القلوبِ إلى طهارتها، كان تعامله ولا يزال مع الناسِ خارجَ المسجدِ وداخله
نبعاً واحداً من النبل.. تواضعُ العالمِ، حلمُ الحكيم، وبسمةُ الطفل، يعاملك وكأنه
يعرفُك منذُ زمنِ الأزل، وكأن عدسةَ عينيه لا ترى فيك إلا الخير.
التيك توك والقرآن.. حكيم العصر الرقمي
وكأنما أرادت الأقدارُ أن تثبتَ للعالم أن الأصالةَ يمكنها
أن ترتدي عباءةَ العصر، وأن العظماءَ لا يتقاعدون، ها هو ذا الحكيمُ ينتقلُ إلى عالمِ
"تيك توك"، لكنه لم يذهبْ ليرقصَ أو يُضحك، بل ذهبَ ليُعلّم.
على ذلك المنبرِ الجديد، حيث صخبُ العالمِ الرقمي، يرفعُ
صوته بالقرآنِ الكريمِ تلاوةً عطرة، كأنه نبعٌ صافٍ يَفِضُّ في وسطِ صحراء، يُذكّرُ
الجيلَ الجديدَ بأن التقنيةَ ليست للهوٍ وحسب، بل يمكنُ أن تكونَ محراباً إلكترونياً،
ومنارةً تضيءُ في عتمةِ الفضاءِ الافتراضي، يحملُ على حسابه كنزاً من الحكمة، فيقدمه
في قالبٍ جديد، ليُثبت أن الجوهرَ الأصيلَ لا يصدأ، بل يتألقُ أكثرَ كلما تغيرَ الإطار.
الرجل الذي صار أسطورة
عبده طاهر الصعدي ليس اسماً في سجلِ الموظفين، بل هو
علامةٌ فارقة في ذاكرةِ أمة، هو الجسرُ الحي بين زمنِ الأبيضِ والأسود وزمنِ
"الـ 4K"، هو
الرجلُ الذي لم يُصوِّر الأحداث، بل صوَّرَ الروحَ اليمنية في أبهى حُللها، في المناسبات،
في الصلوات، في التلاوة، في تعاملهِ الذي هو أشبهُ بـ"السِّفر المقدس" في
أخلاقِه.
إنه الحارس الأمين لصورتنا التي كادت أن تُسرق، والحافظُ
لأنفاسنا الأولى، تعامله النبيل درسٌ بليغ.. أن أعظم الإنجازاتِ تبقى صغيرةً إذا لم
تُزَيِّنها الأخلاق، وأصغر المهامِ تصيرُ عظيمةً إذا وُضعت في يدِ الأمينِ النبيل.
فهنيئاً لليمنِ برجله، وهنيئاً لنا بأننا عاصرناه، وشاهدنا
كيف يمكنُ لإنسانٍ واحدٍ أن يكونَ مكتبةً كاملةً تمشي على قدمين، وأن تكونَ الكاميرا
ثقيلةَ الوزنِ خفيفةَ على القلبِ إذا حملها رجلٌ ثقيلُ المروءةِ والإيمان.
دعاء
أيها العمدة، أيها الحكيم.. لقد جعلت من حياتك فيلماً
خالداً، مخرجَه أنت، وبطلَه الرئيسي أخلاقك، وموسيقاه التصويرية تلاوتك للقرآن، ومشاهدَه
الرئيسية لحظاتُ الخشوع في المحراب، فلتستمرْ هذه التحفةُ الفنية، ولتظلْ عدستُك، التي
رأتْ كلَّ شيء، تنظرُ إلى الدنيا بتواضعِ الحكماءِ وحكمةِ المتواضعين، حفظك الله يا
حارس الذاكرة، ويا قنديلَ الزمنِ النبيل.

ليست هناك تعليقات